خيوط الأمل.. مؤسسات حقوقية تسابق الزمن لتوثيق مفقودي حرب غزة
خيوط الأمل.. مؤسسات حقوقية تسابق الزمن لتوثيق مفقودي حرب غزة
يومًا بعد آخر، يزداد قلق الشاب الثلاثيني محمد قاسم على مصير أخيه عادل (20 عامًا)، بعد أن فُقدت آثاره عند حاجز نيتساريم العسكري الإسرائيلي، خلال نزوح العائلة إلى جنوب قطاع غزة تنفيذًا لأوامر الإخلاء في 27 من أكتوبر 2023.
منذ ذلك الحين، لم تهدأ العائلة في البحث عن نجلها المفقود، عبر التواصل مع من تبقى من أقاربهم في مدينة غزة، فضلاً عن التواصل مع ممثلي اللجنة الدولية للصليب الأحمر ولجان البحث الميداني وفرق الدفاع المدني أملاً في معرفة مصير ابنهم المفقود.
وقال محمد شقيق المفقود "وسيم"، لجسور بوست: "فور عودتنا لمدينة غزة بعد تطبيق وقف إطلاق النار، بدأنا رحلة جديدة في البحث عن شقيقي، وكان الأمل يحدونا بأن نعثر على طرف خيط عن مصيره، لكن للأسف حتى اللحظة لم نجد ما يطفئ نار قلوبنا عليه".
ورغم ما أصاب العائلة من حزن بليغ، وما عانته من ظروف الحياة القاسية والنزوح المرير، فإن جهود البحث ازدادت عبر التدقيق في قوائم الشهداء داخل المستشفيات، والبحث في سجلات الأسرى، ومتابعة أخبارهم عبر الاستفسار من الأسرى المُحررين الذين أفرج عنهم الاحتلال خلال الصفقة الماضية.
وواصلت العائلة جهود البحث عن نجلها المفقود، عبر التواصل مع المؤسسات والمراكز الحقوقية في محاولة لمعرفة مصيره أو سبب اختفائه.
جهود بحث لم تنقطع
أما ذوو الشاب يوسف الشاعر (32 عامًا) من مدينة رفح جنوب قطاع غزة، والذي فقدت آثاره خلال النزوح الجماعي من مدينة رفح مؤخرًا، فإن جهودهم لم تنقطع في البحث عنه أو ما يدل على سبب اختفائه.
ويحاول عبدالله شقيق المفقود يوسف، مستعيناً ببعض أصدقائه وأقاربه وأبناء الحي، البحث عن أخيه، إلا أن محاولاتهم لم تفلح بالعثور عليه.
وقال الشاعر لـ"جسور بوست": "فور تلقي خبر الإخلاء، لم يمهلنا الجيش الإسرائيلي الوقت الكافي لأخذ أمتعتنا، وكان أخي ينوي اللحاق بنا بعد أخذ ما تبقى من أمتعتنا الضرورية اللازمة لرحلة النزوح الشاقّة".
ومنذ استقرار العائلة في منطقة العطار بمواصي مدينة خان يونس، وهي تتفقد باستمرار المشافي الحكومية والميدانية، وكذلك المراكز الصحية ونقاط الدفاع المدني والإسعاف والطوارئ والصليب الأحمر ومؤسسات حقوق الإنسان.
وأضاف الشاعر: "لم ندّخر جهدًا في محاولة البحث عن شقيقي ولهذا نصحنا بعض المقربين بطرق باب المؤسسات الحقوقية، والإبلاغ عن حالة الفقد والتسجيل عبر الروابط الإلكترونية المتاحة في محاولة لمعرفة مصير شقيقي.
ومع تكرار مشهد الفقد والاختفاء القسري في قطاع غزة، تتكشف واحدة من أكثر الأزمات الإنسانية إيلامًا، حيث آلاف المفقودين والمختفين قسرًا، ممن خلّفتهم حرب الإبادة الجماعية في ظل صمت دولي وتعتيم متعمّد، وهو ما دفع بالعديد من المؤسسات الحقوقية الفلسطينية لتكثيف جهودها الرامية إلى البحث عن هؤلاء المفقودين وتسجيل بياناتهم وتوثيقها؛ أملاً في العثور عليهم أو معرفة مصيرهم المطوّق بالمجهول.
حراك حقوقي
ويقدّر مسؤول وحدة البحث في المركز الفلسطيني للمفقودين والمختفين قسرًا غازي المجدلاوي، عدد هذه الفئة ما بين 8 و10 آلاف مواطن، بما يعكس أرقامًا صادمة دعته مع فريق متكامل لتأسيس المركز ومباشرة العمل على توثيق المفقودين والمختفين قسرًا لمحاولة معرفة مصيرهم وأسباب اختفائهم.
وقال المجدلاوي في حديثه لـ"جسور بوست"، إن المركز أطلق منصة إلكترونية تمكّن ذوي المفقودين والمختفين قسرًا من تسجيل بيانات أبنائهم، ومن خلال التواصل المباشر مع الأهالي والشهود، تم توثيق أكثر من 200 حالة رسمية حتى الآن، في وقت يتزايد فيه عدد البلاغات يومًا بعد يوم.
وأضاف المدير بالمركز قائلاً: "تسعى فرقنا إلى التحقق بدقة من كل معلومة، بالاعتماد على بيانات من مؤسسات رسمية وتقارير حقوقية".
ولفت الباحث القانوني إلى أن المركز يعمل حاليًا على تطوير قاعدة بيانات مركزية شاملة، تُعد مرجعًا مستقبليًا للمساعدة في الكشف عن مصير المفقودين والمختفين قسرًا.
وبحسب المجدلاوي، فإن المركز يخطط أيضًا لتوسيع نشاطه ميدانياً، فور توافر الظروف الأمنية الملائمة، عبر فتح نقاط تسجيل في مختلف محافظات قطاع غزة لجمع البيانات مباشرة من الأهالي.
جهود موازية
كذلك تواصل مؤسسة الضمير لحقوق الإنسان جهودها في حصر وتسجيل المفقودين والمختفين قسرًا خلال الحرب، حيث أعلنت عن إطلاق رابطها الإلكتروني ضمن إجراءات تسهيل الوصول لذوي المفقودين ومعرفة تفاصيل فقدان أبنائهم.
وقال مدير المؤسسة بغزة، علاء السكافي، إن المبادرة التي تم الإعلان عنها عبر إنشاء رابط إلكتروني لتسجيل بيانات المفقودين والمختفين قسرًا؛ بغية حصر ورصد وتوثيق حالات هذا الفقد، لمساعدة أيّ جهات مستقبلاً وتزويدها بالمعلومات عنهم.
وكشف السكافي في حديث خاص لـ"جسور بوست"، عن توجه المؤسسة لخوض الغمار القانوني في ملف المفقودين، عبر رفع قضايا لدى القضاء الإسرائيلي والكشف عمّا يمكن كشفه في هذا المسار الإنساني، بالتنسيق مع الجهات الدولية بما فيها محكمة العدل الدولية وأجسام الأمم المتحدة ومجلس حقوق الإنسان والمقرر الخاص المعني بالحق في الحياة وحالات الاختفاء القسري ومناهضة التعذيب.
وقال السكافي: “لن ندّخر أي جهد في سبيل الكشف عن مصير المفقودين وطي هذا الملف الشائك والمعقد الذي يؤرق أهالي المفقودين”.
وأوضح المدير الحقوقي الآليات التي تتبعها المؤسسة في توثيق حالات المفقودين، بدءًا من الحصول على توكيل من عائلات المفقودين أو المختفين قسرًا، ثم جمع المعلومات عنهم بطريقة مباشرة أو من خلال باحثي المؤسسة في مختلف مدن ومحافظات القطاع، بالإضافة لإنشاء رابط إلكتروني والتسجيل للتسهيل على عائلات المفقودين.
وقال السكافي: بعد ذلك يأتي دورنا بشكل مبدئي وبصورة أولية نحو مخاطبة الجانب الإسرائيلي عن مصير الأسماء التي رصدناها، وبالفعل توصلنا إلى أن أكثر من 8 منهم استشهدوا في السجون الإسرائيلية وتم إبلاغ ذويهم.
وبيّن السكافي أن الاحتلال يرفض تزويد المؤسسة بأي تفاصيل عن ظروف استشهاد هؤلاء الأسرى، وتقديم أي مستندات أو وثائق تخصهم، وهذا منذ بداية وقف إطلاق النار في يناير المنصرم، مشيرًا إلى أن المؤسسة تقدمت بطلبات لدى القضاء الإسرائيلي للحصول على مزيد من التفاصيل بشأنهم، وحتى الآن الاحتلال يماطل في الإدلاء بأي معلومات تخصهم.
تحديات قاهرة
وحول جملة التحديات التي تواجه المؤسسة في رصد ومتابعة بيانات المفقودين، لفت الحقوقي الفلسطيني إلى استمرار العدوان وتأثيره على التحرك الميداني لطواقم الباحثين، إضافة لأن دولة الاحتلال لم تعمل وفق مبادئ اتفاقية جنيف الرابعة، بما فيها الاحتفاظ بمعلومات عن الضحايا وحفظ جثامينهم لاستلامها لاحقًا بعد انتهاء النزاع، فضلاً عن أن الاحتلال يرفض تقديم معلومات حالية بشأنهم والإفصاح عن أعدادهم أو أي أرقام وإحصائيات تخص مصير المفقودين.
ونوه السكافي إلى أن استمرار العدوان يقلل من فرص التواصل والتعاون بين المؤسسات الحقوقية والرسمية في ما يخص هذا الملف، الذي يتطلب جهودًا محلية ودولية عبر توفير بنك معلومات يخص المفقودين ومصائرهم.
هذه المعضلة بحسب السكافي، تقيد إجراءات فحص DNA لعوائل المفقودين وحفظها لدى جهة رسمية، تكون قادرة على إجراء متطلبات هذه الفحوصات وفق المعايير المتبعة دوليًا عبر جهة أممية أو من خلال اللجنة الدولية للصليب الأحمر، وتبادل المعلومات من المؤسسات الفلسطينية ودولة الاحتلال.
وتتبع المؤسسة إجراءات دقيقة للحصول على معلومات دقيقة وشفافة عن المفقودين عبر التواصل مع ذويهم.
وشدد المدير بالمركز على أن التفاصيل الخاصة بالمفقودين والمختفين قسرًا بهم عبر جمعها عبر الوثائق والمستندات مثل التقارير الطبية قبل الفقد أو أي فحوصات للدم أجراها المفقود سابقًا أو التصوير الطبي والأشعة الطبية خاصة للوجه أو الفكين لمحاولة مطابقتها مع ما يمكن الحصول عليه من معلومات من الجانب الإسرائيلي، أو بعض الحالات التي يتم اكتشافها مثل الهياكل العظمية التي يتم العثور عليها من داخل المناطق التي ينسحب منها الجيش الإسرائيلي.
مطالب جديّة
أعرب السكافي عن أهمية دور المنظمات الدولية لمعالجة هذا الملف، بما فيها وكالات الأمم المتحدة المعنية بحالة حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية، واللجنة الدولية للصليب الأحمر، نحو مساعدة الجهات الفلسطينية سواء المؤسسات الأهلية أو منظمات المجتمع المدني، في إنهاء ملف المفقودين.
وطالب تلك الجهات بضرورة التدخل الجاد والحقيقي بما يساعد في الكشف عن مصير المفقودين، قائلاً: "هذا بحاجة إلى تكاتف الجهود وتوفير إمكانيات ضخمة، سيما عملية إنشاء بنك لفحص DNA، وهذا غير متوفر حاليًا لما أصاب المنظومة الصحية من انهيار شبه تام".
ويواصل المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان جهوده الرامية لتوثيق حالات المفقودين والمختفين قسرًا، حيث تعمل طواقمهم منذ بداية الحرب على جمع الإفادات المباشرة من ذوي المفقودين أو شهود العيان.
وقال نائب مدير دائرة البحث الميداني، ياسر عبدالغفور، إن هناك آلية للمتابعة من الدائرة القانونية في المركز، وهناك حالات يتم توثيقها ثم تحويلها إلى اللجنة المعنية بحالات الاختفاء القسري لتمارس دورها في المتابعة، فضلاً عن إنشاء منصة خاصة أطلقها المركز للإبلاغ عن المعتقلين والمخفيين قسرًا.
وأضاف عبدالغفور في حديثه لـ"جسور بوست": "نتواصل بشكل مباشر مع أهالي المختفين لتوثيق الحالات من مصدرها الأول، في ظل غياب أي بيانات رسمية من الاحتلال حول مصير هؤلاء الأشخاص، كما نستعين أحيانًا بمصادر ميدانية محلية أو شهادات موثوقة من داخل المعتقلات الإسرائيلية حين تكون متاحة، مع التأكيد على سرية وحماية معلومات الضحايا وذويهم".
وأشار عبدالغفور إلى أن فِرق التوثيق والعاملين الميدانيين يواجهون مخاطر عديدة خلال عملية التوثيق والرصد، بما فيها استمرار عمليات القصف، فضلاً عن صعوبات الاتصال وانقطاع الاتصال وخدمات الإنترنت لفترات طويلة في معظم مناطق القطاع.
ولفت إلى أن أكثر ما يعوق عمل الطواقم هو رفض الاحتلال تقديم أية معلومات حول المحتجزين خلال العمليات العسكرية، بالإضافة إلى صعوبة الوصول إلى بعض المناطق بسبب تدمير الطرق والمرافق والبنية التحتية.
وبيّن الحقوقي أن حالة النزوح المتكرر وتشتت عائلات المفقودين، وما يواجهونه من ضغط نفسي ومعنوي، كلها أمور تؤثر سلبًا على تواصلهم مع طواقم المركز، وتعوق أحيانًا قدرتهم على الإدلاء بمعلومات مفصلة قد تؤشر لمعرفة مصيرهم، مطالبًا بضرورة إرسال بعثات تقصي حقائق محايدة للعمل ميدانيًا في توثيق هذه الجرائم.